............ (( أمل على قيد الحياة )) ............
قصة قصيرة......الجزء الثامن
دموع سخية ذرفتها عينا هيام بوجع وحسرة
على مواقف أيقضتها ذاكرة متعبة في تلك الليلة
لم أستطع منع دموعي المنهمرة خلف قضبان الصمت
والتي كانت سببا لنبش الماضي بذاكرتي
بعد أن افترقنا أنا وهيام مودعين بعضنا على أمال كثيرة
وأحلام معذبة مصلوبة على أرصفة الصبر
جلست وحيدا كعادتي أرتشف الشاي من ذاك القدح البارد وأمتص سيجارتي وقد أثقلت رأسي هموم الماضي بكوابيسه الموجعة
تأرقت لوقت متأخر
لكن بصيص الأمل الذي سطع مؤخرا في داخلي
كان سببا في استسلامي لسلطان النوم
مما جعلني أستيقظ متأخرا
لكنني أشعر بنشاط غريب تملك أرجاء جسدي
كلمات صباحية رائعة وجدتها على هاتفي
كانت قد أرسلتها إلي هيام بوقت مبكر
قمت بالرد عليها وتوجهت إلى المطبخ
لإعداد فنجان من القهوة قبل مغادرتي
لكن رنين هاتفي أعادني ثانية
من ياترى يكون ..؟
ساورني الشك بأن المتصل هو هيام
لكن المفاجأة بأن أبي الفوارس هو المتصل
ماذا يريد عساه ياترى
لعله خير
طرق مسامعي صوته صارخا
صباح الخير عامر
أين انت
تعلو نبرة صوته فرحة عامرة
قلت صباح الخير
أنا بالبيت خيرا إن شاءالله
قال بلغة الفرح المندفع
لقد عثرت على هاتف حديث
غالي الثمن على الرصيف أثناء مجيئي إلى العمل
وهو الآن بحوزتي
فماذا أفعل
أثار ضحكي
قال ماالذي يضحكك
قلت لا شيئ
ماذا تنوي أنت
هل تنوي ضمه للأملاك الخاصة
مع إنني أعلم الناس بأخلاقه فلا يمكن لمثله ان يدخل قرشا من حرام لجيبه
قال عرفت الآن سبب ضحكك ياصديقي
لوكنت كذلك لما اتصلت عليك
قلت دعه إذا معك حتى يتصل عليك صاحبه
قال هل يكفي ثلاثون دولارا
مقابل إرجاع الهاتف لصاحبه
قلت من يؤدي معروفا لأحد
فليس من العقلانية أن ينتظر كلمة شكر
فكيف وأنت تبرء ذمتك من شيئ ليس ملكك
قال لكنني مصر على أخذ الإكرامية من صاحب الهاتف
قلت افعل مابدالك
فلا أراك تختلف عن أشعب بشيئ
قال بغضب من أشعب
قلت جدك
قال جدي أسمه نجم
قلت إن كان نجما فلا تنزله للثرى من أجل ثلاثون دولارا
وليكن عملك خالصا لوجه الله حتى لاتفقد الأجر
قال سنتكلم لاحقا
وكأن كلامي لم يعجبه
مع إنني لم أقصد بذلك إلا النصيحة أكملت ماكنت أنوي القيام به
وتوجهت قاصدا السفارة من أجل تقديم الأوراق اللازمة للحصول على جواز السفر
لتحقيق أول خطوة من خطوات اللقاء الذي آمل أن يجمعني بهيام
وتم بعون الله القيام بكل الإجراءات بعد أن حصلت على موعد استلام الجواز
وقد رجعت للمنزل الذي خلا من الجميع بعد ان أعياني التعب بسبب حرارة الطقس وازدحام المراجعين
ولم تكن شوارع بيروت بأقل ازدحاما
بل كانت كتلة ملتهبة بازدحام المارة وضجيج السيارات
مما وجدت سكينة تامة وسط جدران حجرتي
بعد أخذ حمام فاتر
وقد ساد الصمت أرجاء البيت
فلم أجد أفضل من تلك الفرصة
كي أخبر هيام بموعد استلام جواز السفر
فإنها ستفرح كثيرا
لكنني عبثا أحاول فهاتفها مغلق
فلم يملئ علي خلوتي سوى قلمي واللجوء إلى أوراقي
لكن ذلك القدر المحتوم أبي الفوارس كان بالمرصاد
فقد انتصب على باب حجرتي بابتسامة عريضة
كاشفا عن أسنانه المسوسة
يلوح لي بيده اليمنى بقطعة نقدية من فئة العشرين دولارا
قائلا مارأيك
قلت مستغربا
أيعقل أن تنسيك هذه ألقاء التحية
ماذا فعلت بالرجل حتى حصلت عليها
قال أنظر عامر
أنا لم أسرق
بل صاحب الهاتف أعطاني إياها عن طيب خاطر
وعموما السلام على الرجال
قلت وعليكم ماذكرتم
لكنني التزمت الصمت بعدها
وعدت للكتابة غير مكترث بما يثرثر به
حتى لا يقطع علي أفكاري
لكنه فعلها وقال ضاحكا إياك أن تكتب تلك بالقصة ولم يبرح مكانه حتى رأى ابتسامتي
ثم استدار وقال سأستحم وأحضر طعام الغداء
استغرقت بالكتابة وأنا أحتسي قدحا من الشاي قام بتحضيره أبي الفوارس ليرضيني
بينما راح يعبث بهاتفه ملتزما الصمت
حتى مزقت هيام ذاك الصمت باتصالها الهاتفي
لم تخلو كلماتها من لهفة المشتاق
ومن فضولها لمعرفة ماحدث بشأن الحصول على جواز السفر
قصصت لها ماجرى على مسمع أبي الفوارس
تنهدت قائلة ماأسعد ذلك اليوم الذي سنكون به سويا
لفت انتباهي صمت أبي الفوارس
مثبتا نظره بهاتفه
لكنه قد أرخى أذنيه منصتا لمكالمتي
وانا أقول أشتقت إليك هيام
وقد أخفضت من صوتي قليلا
قالت عامر هل بجانبك أحد
قلت مجاهرا بصوتي نعم
فعندي أبي الفوارس هاهو قد أرخى أذنيه منصتا لمحادثتي معك
قال انا
مما أثار ضحك هيام
قلت متابعا
هل تودين التكلم معه
فهو رفيق الطريق وأمين أسراري
قالت لابأس سأسلم عليه
قلت خذ الهاتف مناديا إياه
ورحت مادا يدي إليه
قائلا هيام تريد التحدث معك
أحمر وجهه قائلا معي أنا
قلت نعم تريد أن تسلم عليك
ألتقط الهاتف من يدي وراح يتحدث بلهجته الريفية مرتبكا
حتى أنهى مكالمته
قائلا على رأسي
فعامر أخي ولا يحتاج لتوصية
بأمان الله خذي عامر
ومالامست سماعة الهاتف أذني
حتى طرقت مسامعي ضحكة هيام وهي تقول عامر عامر
قلت نعم
قالت بأي لغة يتحدث صاحبك
قلت الصينية
أثارت ضحكها تلك الكلمة
ثم صمتت فجأة
ثم تابعت كلامها بعد أن تغيرت نبرة صوتها
عامر
قلت نعم
قالت كل يوم يأتي أحس بقربك أكثر
وكلما تعمقت بك ازددت بك تعلقا
لم أقاطعها
وهي بدورها لم تتوقف عن كبح مشاعرها
بل تحدثت عن كل مايدور بخلدها من أحلام بدون أي خجل أو وجل
ونفثت حمما ساخنة ملتهبة من فوهة مشاعرها المتأججة
لم أستطع أن أطلق العنان بالبوح بمشاعري بسبب وجود أبي الفوارس
بل أكتفيت بالأستماع لكلماتها التي كانت تنزل على قلبي كقطرات الندى
خرج أبي الفوارس فجأة وقد استدار إلي قائلا سأبدء بتحضير طعام الغداء
وسأعمل بنصيحة جدي الذي كان يقول دائما إذا كانوا إثنان فلا تكن ثالثهما
قلت بعد ماذا
انصرف ضاحكا
بينما هيام تردد عامر عامر
قلت ياقلب عامر
قالت لدي خبر سيفرحك كثيرا
قلت هاتي ماعندك
قالت هل ديوانك الشعري الذي قمت بطباعته عندنا موثق في دار الكتب
قلت لا
فأنا لم أطبع سوى خمسون نسخة والصديقة التي قامت بمساعدتي لم تذكر شيئ كهذا
قالت كتاباتك إذا معرضة للسرقة
قلت كيف وجميع المجلات الأدبية التي أنشر بها تقوم بتوثيق مااكتب
قالت هذا لا يكفي
سأخبرك بماحدث معي اليوم
فعند ذهابي إلى مكتب تلك الإعلامية التي حدثتك عنها
التقيت هناك باستاذ في الجامعةوهو شخص من الذين أطلعوا على ديوانك ولديه دار نشر وقد بدا اعجابه بكتاباتك
وتحدث معي بشأن توثيق ديوانك بدار الكتب قبل أن يسرق
وعرض علي سعر جيد إذا ماأردنا
طبع الديوان من جديد
متكفلا بالتوثيق
وقال بأن ديوانك سيشارك بمعرض الكتاب هذا العام
وقد طلب مني الرجل أن أستعد لمرافقته يوم الأثنين القادم أي بعد أسبوع حتى نقوم بإجراءات التوثيق لكي نحصل على وثيقة ايداع بعد موافقتك
قلت أفعلي ماتجدينه مناسبا حبيبتي
وسأقوم بتحويل مبلغ من المال
قالت لا تفعل شيئ عامر
فكل عملنا الآن لن يحتاج لمال
أخبرني ماذا بشأن عملك
قلت لقد نسيت ان أخبرك
بأنني عائد إلى عملي غدا
قالت بدهشة رائع حبيبي
والله لقد أفرحتني
تحدثنا طويلا وقد علت شفتيها ابتسامة الفرح
وحلقت كلماتنا بسماء السعادة على أجنحة الأمل الذي لم يزل على قيد الحياة
استطاع أبي الفوارس أن يكون السبب المباشر بإنهاء تلك المحادثة بإحضاره طعام الغداء
لكن ذلك الموعد المقدس في مساء كل ليلة لا زال ولم يزل هو الخيط الذي نستمد منه روح الأمل
ونستنشق من خلاله عبير الشوق
لينفث كلا منا ماتنم به أحاسيسه
من كوامن تلك المشاعر الصادقة المتجردة من سفاسف تلك الأمور التافهة
هاهي هيام تلهب هاتفي باتصالها
كي تشهد تلك الشرفةالحزينة لقاءا جديدا من لقائاتنا الحميمية الطاهرة بعد أن نشر السكون ردائه
وهجعت تلك الأنفس المعذبة المتعرية عن كل زيف مصطنع
وظهرت هيام من جديد بعينيها النجلاوين وبمقلتين صافيتين
يرتسم الخجل على وجنتيها
بكل حشمة وأدب قائلة
أشتقت إليك ياعشق الروح
قلت حبيبتي
ثم تملكني صمت وأنا أهيم بعينيها شوقا
مرت لحظات ولم ننبس ببنت شفة
لكنني مزقت ذاك الصمت
وتكلمت بلغة النهم الجائع المتعطش عن كل مايخالج داخلي من أحاسيس لم تمس شغاف قلبي من قبل
كسرنا حاجز الخوف والخجل
وتعانقنا شوقا بأرق العبارات التي لم تتجاوز نطاق العفة والأدب
ثم قالت بعد أن قمنا بتحويل المكالمة لمكالمة صوت فقط
عامر لن أطيل عليك اليوم حبيبي لأجل عملك غدا
قلت لابأس حبيبتي
لكن السؤال الذي لازال يحيرني
والذي تعقبه ألف إشارة استفهام
كيف يستطيع المرء مشورا بدأه بزرع بذور الحقد والكراهية
مع إنه كان قادرا على أن ينهي تلك المهزلة من البداية
قالت نعم عامر
وهي تعلم أني أشير إلى سحب الماضي الكئيبة
سأجيبك حبيبي
أنت تعلم أولا بأنني لست من أصحاب الأحلام الوردية
فأنا من اللواتي يرضين بالقليل
فعلاقتي بشخص واحد
قد فرضه القدر علي
والذي من خلاله أستطيع أن أكمل دراستي
خيرا من العودة إلى حياة فيها أمرأة كزوجة أبي الحاقدة والتي لم ألقى فيها إلا الإهانة والذل
ومن جهة ثانية
فأنا لم أعد أملك روح المقاومة بين أناس لا يروني إلا على الهامش
فرضيت بماكتبه الله لي
وعشت حياتي زوجة لسيد في بيت واحد لم تجمعنا أي أفكار مشتركة
فأول ماعرضت عليه
هي فكرة متابعة تعليمي
لكنه رفض رفضا قاطعا
زاعما أن المرأة لم تخلق إلا لزوجها وأولادها
كان كثير السفر لبلاد عربية مختلفة بحكم عمله بشركة والده هو وأخوته
فكانت إجازاته القليلة والقصيرة
هي السبب الرئيسي لمتابعة حياتي معه
كي أستطيع متابعة تعليمي سرا بعد رفضه
وبمساعدة تلك المراة القبطية أم ملاك
التي قامت بتأمين كل كتب المنهاج لي
والتي كانت تحثني على الدراسة والتعليم في البيت أثناء سفره
وأقوم بإخفاء الكتب أثناء حضوره من السفر
ودارت الأيام بنا رحاها برغم تناقضاته الكثيرة وتفكيره الغير سوي
حتى أنه كان يحاول إجباري على أن أقوم بتقديم الشاي والقهوة لرفاقه الشباب الذين كانوا يحضرون عند مجيئه
من السفر
فكنت أرفض رفضا قاطعا
فيتحول إلى وحش كاسر يقوم بضربي وشتمي واتهامي بأنني كسرت كلمته امام رفاقه الذي يعيرونه بأنه ليس برجل
فقلت ولم ترفضين هيام
إذا كان زوجك موجود
قالت كنت أرفض لأنني لم أجد إلا الغدر والخيانة من نظرات أصدقائه
هذا لو كانوا أصدقاء
فقد لاحظت أثناء زيارتهم للمرة الأولى نظراتهم الخائنة والغير طبيعية
حتى انه راح أحدهم يثني علي وعلى جمالي بطريقة غير لائقة أثناء تقديمي القهوة لهم
أمام زوجي الذي لم يحرك ساكنا وكأن الغيرة لم تجد طريقها الى رأسه
فمنذ ذلك الموقف راح يتملكني خوف شديد من كل رفاقه الذين كانوا يحضرون عنده ويسهرون لوقت متأخر من الليل
فبعد ان أحضر لهم القهوة أقوم بإغلاق الباب على نفسي حتى يذهبوا
ومرت الأيام وانا أحاول التقرب من سيد بالنصيحة وبالكلمة الطيبة حتى يصلي فقط لكنني عبثا أحاول
رغم تنازلاتي الكثيرة
لكن ردوده دائما لم تتجاوز حدود السخرية اللاذعة والتكبر
بحثت عمن يحاول تفهمي أو مساعدتي من أهله وأخوته
لكنهم لم يكونوا بأحسن حال منه
مرت الأيام حتى رزقني الله منه بولدي البكر الذي أسماه ماجد على أسم أبيه
بتلك الفترة أحسست بتغيير ملحوظ بحياة سيد نحو الأفضل
وكأن مولودنا الأول كان سببا بتغييره والتفاته لبيته وأسرته
أسعدني ذلك كثيرا وكنت أتجنب كل مايغضبه حتى لو كان على خطأ
سافر يومها وكنت حاملا بأحمد وماجد لم يتجاوز الخمسة أشهر من عمره
لذلك الوقت وأنا أتابع تعليمي سرا قمت بتقديم الإمتحان إثناء سفره ولم أعلم بأن أهله قد اكتشفوا أمري
عاد من سفره بعد فترة قصيرة
تناول معي طعام العشاء كان طبيعيا جدا فقد أخذ ابنه بين ذراعيه يشمه ويقبله ثم أعطاني إياه وخرج من البيت قاصدا بيت أهله قائلا لن أتأخر
بقيت بمفردي بالبيت فقد أعتدت على ذلك
فأنا لم أعد وحيدة
بعد ان رزقني الله طفلا كفلقة القمر
انتظرت سيد لوقت متأخر لكنه لم يعد
كانت ليلة باردة من ليالي الشتاء القارسة
ضممت طفلي إلى صدري وغلبني النعاس فنمت وسيد لم يعد بعد
قلت وماذا بعد
وكل تفاصيل قصتها تجتاح مخيلتي بكل دقتها
قالت لم أستيقظ إلا على صراخ سيد الذي انقلب إلى وحش كاسر
يضرب ويحطم بأثاث البيت
وهو يسبني ويشتمني بألفاظ بذيئة
صارخا أين الكتب
استيقظت مرعوبة مدهوشة
ضممت ماجد لصدري وأنزويت خائفة مرتجفة
وسيد يبعثر الملابس من الخزانة
ثائرا هائجا
حتى عثر على الكتب
فبدأ يمزقها ويركلها بقدميه
ثم أقبل علي كالمتوحش
وكأن عيناه عينا شيطان
قبض على شعري وسحبني من السرير بكل وحشية وألقاني أرضا
ولا ازال متشبثة بماجد بكلتا ذراعاي ببنما انهال علي ضربا وركلا بقدميه بلا شفقة ولا رحمة
ثم فتح باب البيت وألقاني خارجا صارخا أغربي عن وجهي وأغلق الباب بقوة
أنتصبت ورحت أطرق الباب وسط بكائي وبكاء طفلي على مرأى من الجيران الذين خرجوا على أصواتنا لكنهم لم يحركوا ساكنا وقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل
وسيد لم يفتح الباب
ألقت علي جارتي رداءا كي أستر نفسي من عيون هؤلاء الذين خلت قلوبهم من الرحمة
ولم يجرؤ احدهم على إيوائي أنا وطفلي
فلم يكن أمامي إلا العودة إلى بيت أبي باكية ذليلة وسط صراخ طفلي الذي يشق سكون الليل ويمزق صقيع تلك الليلة البائسة
سلكت الطريق الذي خلا من كل شيئ تلفحني نسمات الصقيع
متوجهة لبيت أبي الذي يبعد أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام
تقص علي هيام مجريات تلك الأحداث وسط نحيبها وبكائكها
فلم أستطع إمساك دموعي التي بللت لحيتي منصتا لها بكل خشوع ووجع دون أن أقاطها
قالت متابعة
وصلت بيت أبي وطرقت الباب
وأنا أرتجف خوفا وبردا وسط بكاء طفلي الذي ملئ المكان
فتحت لي الباب زوجة أبي وكأنها كانت تشهد ليلة رومانسية
حدقت مدهوشة يسكن نظراتها حقد دفين
قائلة هذا أنتي ماذا تريدين
لكنني دخلت بلا استئذان غير مكترثة لها
متوجهة إلى أبي الذي كان يجلس على أريكة قبالة الممر
ينعم بدفئ ذلك الموقد الذي يجلس أمامه
والذي أستقبلني بكلامه الجاف
قائلا مالذي جاء بك في هذا الوقت المتأخر
ولم يعطني فرصة للتحدث بماجرى
بل أردف قائلا ليس لك مكان بيننا
وصرخ قائلا هيا عودي لبيت زوجك
تملكني صمت رهيب وسط خيبة الأمل
فانفجرت باكية
وقلت انظر إلي جيدا
بحياتي كلها لم أحس بعطفك وحنانك
لكنني سأذهب الآن ولن أعتبر بعد اليوم بأن لي أبا
وسأعود إلى سيد كالكلبة وسأعيش تحت أقدامه ذلا
فهو لا يلام على مايفعل إذا كنت أنت هكذا
وخرجت هائمة على وجهي باكية وقد أسودت الدنيا أمامي ماذا لولم يفتح الباب لي سيد
سأذهب إلى بيت أهله أولا وأخبرهم بماحصل لعلهم يرأفوا بحالي وبحال طفلي فأقضي الليلة عندهم أو يعيدوني لبيتي
وقادتني قدماي لبيتهم
طرقت الباب فانبرت أمه بالباب ترمقني بكل وقاحة قائلة ماذا تريدين
قلت لقد ضربني سيد وطردني من البيت
فوضعت كلتا يديها على الباب مانعة دخولي
مجيبة إياي بكل قسوة وفضاضة
هي اذهبي لبيت أبيك
وأغلقت الباب بوجهي
وقفت لحظات وأنا أتمنى الموت ولا أراه وسط بكاء طفلي الذي لم ينقطع
ولم يبقى أمامي سوى العودة إلى سيد لأرتمي تحت أقدامه ذلا وانكسارا لأجل هذا الطفل الصغير
وعدت مكسورة ذليلة بعد أن أغلقت كل الأبواب بوجهي
سرت محطمة الخطوات تتقاذفني مئات الأفكار
وتصفعني عواصف الذل من كل جانب
متوجهة لبيت سيد أسير بطريق خالية من الإنس والجن بمنتصف الليل وأنا لم أتم السادسة عشر من عمري
وإذا بسيارة تتقدم مني مسرعة وقد بهرت عيناي بأنوارها الساطعة
لكن السيارة بعد أن تفادتني
توقفت بعد خمسين مترا
فاستدرت خلفي أنظر ماذا يجري
فتح الباب ونزل منها شابا
وهو يترنح يمينا وشمالا مناديا إياي هاا.... ماذا يفعل القمر لوحده على ناصية الطريق بعد منتصف الليل
أحسست عندها بخطورة الموقف وأصابني هلع شديد
فماكان مني إلا أن ركضت مسرعة هاربة
بينما ذاك الشاب راح يجري خلفي
وصاحبه الذي معه يقف خلف السيارة يقول له بصوت عال
لا تدعها تفلت من يدك
فأدركت أنه سيلحق بي
فأنا حامل وطفلي الصغير بحضني
فقمت بألقاء طفلي على الأرض الذي شق بكائه سكون الليل
وألتجأت إلى مبنى حديث البنيان بلا أبواب ولا نوافذ
فأختبات به وألتجأت بزاوية مظلمة
وأنا أرقب تحركات ذلك الشاب الذي راح يقترب من المدخل وصوت بكاء ماجد يمزق قلبي
وأنا أتضرع وأدعو الله ان يصرف عني وعن طفلي كل سوء
وقف على باب المدخل لحظات
لكنه سرعان مافر عائدا لصاحبه لكنه حمل طفلي بين يديه وولا مدبرا لصاحبه
بينما ألتزمت الصمت ورحت أرقبهم من أحدى نوافذ المبنى مرتجفة مرعوبة
سمعت صاحبه يقول له لماذا لم تحضرها معك
قال المكان مظلم جدا
سنأخذ الطفل فهي حتما ستلحق بنا
لكن الآخر أنتزع طفلي من بين يديه وألقاه على الأرض بلا شفقة ولا رحمة
وصرخ به قائلا
هي اصعد أيها الجبان قبل أن يرانا أحد
ثم ركبوا السيارة وغادروا المكان على الفور
فخرجت مسرعة كالمجنونة إلى طفلي
حملته بكلتا يدي وأنا أجري وأحاول اسكاته
ولم أجد نفسي إلا على باب سيد
طرقت الباب فلم يفتح
ثم طرقته ثانية
لكنه خرج وكأنه شيطان
انهال علي من جديد ضربا وركلا بقدميه
قائلا مازلتي هنا
حتى أنه أصاب ماجد بإحدى ركلاته فأوقعني فوقه
ثم دخل وصفع الباب صفعة قوية
استدرت خلفي فاغلق الجيران أبوابهم بعد أن أغلقت كل الأبواب بوجهي
لكن باب الله لم يغلق
فحملت طفلي الذي سكت أخيرا
وصعدت به إلى السطح
ضممته إلى صدري واستلقيت بجانب خزان الماء
وانا أرتجف رعبا وبردا
وبعد مضي أكثر من ساعة لفت انتباهي سكوت ماجد عن البكاء وانعدام حركته
فانتفضت مذهولة مرعوبة أنادي ماجد ماجد
أهزه بكلتا يدي فلا يتحرك
وقد أزرقت شفتاه
فرحت أصرخ بأعلى صوتي ماجد ماجد
شق صوتي صمت الجبناء
ومزق ذاك السكون
الحزين
نزلت السلم كالمجنونة
وأنا أطرق أبواب الجيران وباب سيد وانا أبكي وأصرخ لقد مات ماجد لقد مات ماجد
حقا لقد مات ماجد بعد أن ماتت الرحمة بتلك النفوس المحنطة
انهالت هيام باكية منهاره
بعد أن أبكت كل جارحة في كياني...... يتبع
بيروت ٢٠١٨/٩/١٤
بقلم عبدالله محمد الحسن
قصة قصيرة......الجزء الثامن
دموع سخية ذرفتها عينا هيام بوجع وحسرة
على مواقف أيقضتها ذاكرة متعبة في تلك الليلة
لم أستطع منع دموعي المنهمرة خلف قضبان الصمت
والتي كانت سببا لنبش الماضي بذاكرتي
بعد أن افترقنا أنا وهيام مودعين بعضنا على أمال كثيرة
وأحلام معذبة مصلوبة على أرصفة الصبر
جلست وحيدا كعادتي أرتشف الشاي من ذاك القدح البارد وأمتص سيجارتي وقد أثقلت رأسي هموم الماضي بكوابيسه الموجعة
تأرقت لوقت متأخر
لكن بصيص الأمل الذي سطع مؤخرا في داخلي
كان سببا في استسلامي لسلطان النوم
مما جعلني أستيقظ متأخرا
لكنني أشعر بنشاط غريب تملك أرجاء جسدي
كلمات صباحية رائعة وجدتها على هاتفي
كانت قد أرسلتها إلي هيام بوقت مبكر
قمت بالرد عليها وتوجهت إلى المطبخ
لإعداد فنجان من القهوة قبل مغادرتي
لكن رنين هاتفي أعادني ثانية
من ياترى يكون ..؟
ساورني الشك بأن المتصل هو هيام
لكن المفاجأة بأن أبي الفوارس هو المتصل
ماذا يريد عساه ياترى
لعله خير
طرق مسامعي صوته صارخا
صباح الخير عامر
أين انت
تعلو نبرة صوته فرحة عامرة
قلت صباح الخير
أنا بالبيت خيرا إن شاءالله
قال بلغة الفرح المندفع
لقد عثرت على هاتف حديث
غالي الثمن على الرصيف أثناء مجيئي إلى العمل
وهو الآن بحوزتي
فماذا أفعل
أثار ضحكي
قال ماالذي يضحكك
قلت لا شيئ
ماذا تنوي أنت
هل تنوي ضمه للأملاك الخاصة
مع إنني أعلم الناس بأخلاقه فلا يمكن لمثله ان يدخل قرشا من حرام لجيبه
قال عرفت الآن سبب ضحكك ياصديقي
لوكنت كذلك لما اتصلت عليك
قلت دعه إذا معك حتى يتصل عليك صاحبه
قال هل يكفي ثلاثون دولارا
مقابل إرجاع الهاتف لصاحبه
قلت من يؤدي معروفا لأحد
فليس من العقلانية أن ينتظر كلمة شكر
فكيف وأنت تبرء ذمتك من شيئ ليس ملكك
قال لكنني مصر على أخذ الإكرامية من صاحب الهاتف
قلت افعل مابدالك
فلا أراك تختلف عن أشعب بشيئ
قال بغضب من أشعب
قلت جدك
قال جدي أسمه نجم
قلت إن كان نجما فلا تنزله للثرى من أجل ثلاثون دولارا
وليكن عملك خالصا لوجه الله حتى لاتفقد الأجر
قال سنتكلم لاحقا
وكأن كلامي لم يعجبه
مع إنني لم أقصد بذلك إلا النصيحة أكملت ماكنت أنوي القيام به
وتوجهت قاصدا السفارة من أجل تقديم الأوراق اللازمة للحصول على جواز السفر
لتحقيق أول خطوة من خطوات اللقاء الذي آمل أن يجمعني بهيام
وتم بعون الله القيام بكل الإجراءات بعد أن حصلت على موعد استلام الجواز
وقد رجعت للمنزل الذي خلا من الجميع بعد ان أعياني التعب بسبب حرارة الطقس وازدحام المراجعين
ولم تكن شوارع بيروت بأقل ازدحاما
بل كانت كتلة ملتهبة بازدحام المارة وضجيج السيارات
مما وجدت سكينة تامة وسط جدران حجرتي
بعد أخذ حمام فاتر
وقد ساد الصمت أرجاء البيت
فلم أجد أفضل من تلك الفرصة
كي أخبر هيام بموعد استلام جواز السفر
فإنها ستفرح كثيرا
لكنني عبثا أحاول فهاتفها مغلق
فلم يملئ علي خلوتي سوى قلمي واللجوء إلى أوراقي
لكن ذلك القدر المحتوم أبي الفوارس كان بالمرصاد
فقد انتصب على باب حجرتي بابتسامة عريضة
كاشفا عن أسنانه المسوسة
يلوح لي بيده اليمنى بقطعة نقدية من فئة العشرين دولارا
قائلا مارأيك
قلت مستغربا
أيعقل أن تنسيك هذه ألقاء التحية
ماذا فعلت بالرجل حتى حصلت عليها
قال أنظر عامر
أنا لم أسرق
بل صاحب الهاتف أعطاني إياها عن طيب خاطر
وعموما السلام على الرجال
قلت وعليكم ماذكرتم
لكنني التزمت الصمت بعدها
وعدت للكتابة غير مكترث بما يثرثر به
حتى لا يقطع علي أفكاري
لكنه فعلها وقال ضاحكا إياك أن تكتب تلك بالقصة ولم يبرح مكانه حتى رأى ابتسامتي
ثم استدار وقال سأستحم وأحضر طعام الغداء
استغرقت بالكتابة وأنا أحتسي قدحا من الشاي قام بتحضيره أبي الفوارس ليرضيني
بينما راح يعبث بهاتفه ملتزما الصمت
حتى مزقت هيام ذاك الصمت باتصالها الهاتفي
لم تخلو كلماتها من لهفة المشتاق
ومن فضولها لمعرفة ماحدث بشأن الحصول على جواز السفر
قصصت لها ماجرى على مسمع أبي الفوارس
تنهدت قائلة ماأسعد ذلك اليوم الذي سنكون به سويا
لفت انتباهي صمت أبي الفوارس
مثبتا نظره بهاتفه
لكنه قد أرخى أذنيه منصتا لمكالمتي
وانا أقول أشتقت إليك هيام
وقد أخفضت من صوتي قليلا
قالت عامر هل بجانبك أحد
قلت مجاهرا بصوتي نعم
فعندي أبي الفوارس هاهو قد أرخى أذنيه منصتا لمحادثتي معك
قال انا
مما أثار ضحك هيام
قلت متابعا
هل تودين التكلم معه
فهو رفيق الطريق وأمين أسراري
قالت لابأس سأسلم عليه
قلت خذ الهاتف مناديا إياه
ورحت مادا يدي إليه
قائلا هيام تريد التحدث معك
أحمر وجهه قائلا معي أنا
قلت نعم تريد أن تسلم عليك
ألتقط الهاتف من يدي وراح يتحدث بلهجته الريفية مرتبكا
حتى أنهى مكالمته
قائلا على رأسي
فعامر أخي ولا يحتاج لتوصية
بأمان الله خذي عامر
ومالامست سماعة الهاتف أذني
حتى طرقت مسامعي ضحكة هيام وهي تقول عامر عامر
قلت نعم
قالت بأي لغة يتحدث صاحبك
قلت الصينية
أثارت ضحكها تلك الكلمة
ثم صمتت فجأة
ثم تابعت كلامها بعد أن تغيرت نبرة صوتها
عامر
قلت نعم
قالت كل يوم يأتي أحس بقربك أكثر
وكلما تعمقت بك ازددت بك تعلقا
لم أقاطعها
وهي بدورها لم تتوقف عن كبح مشاعرها
بل تحدثت عن كل مايدور بخلدها من أحلام بدون أي خجل أو وجل
ونفثت حمما ساخنة ملتهبة من فوهة مشاعرها المتأججة
لم أستطع أن أطلق العنان بالبوح بمشاعري بسبب وجود أبي الفوارس
بل أكتفيت بالأستماع لكلماتها التي كانت تنزل على قلبي كقطرات الندى
خرج أبي الفوارس فجأة وقد استدار إلي قائلا سأبدء بتحضير طعام الغداء
وسأعمل بنصيحة جدي الذي كان يقول دائما إذا كانوا إثنان فلا تكن ثالثهما
قلت بعد ماذا
انصرف ضاحكا
بينما هيام تردد عامر عامر
قلت ياقلب عامر
قالت لدي خبر سيفرحك كثيرا
قلت هاتي ماعندك
قالت هل ديوانك الشعري الذي قمت بطباعته عندنا موثق في دار الكتب
قلت لا
فأنا لم أطبع سوى خمسون نسخة والصديقة التي قامت بمساعدتي لم تذكر شيئ كهذا
قالت كتاباتك إذا معرضة للسرقة
قلت كيف وجميع المجلات الأدبية التي أنشر بها تقوم بتوثيق مااكتب
قالت هذا لا يكفي
سأخبرك بماحدث معي اليوم
فعند ذهابي إلى مكتب تلك الإعلامية التي حدثتك عنها
التقيت هناك باستاذ في الجامعةوهو شخص من الذين أطلعوا على ديوانك ولديه دار نشر وقد بدا اعجابه بكتاباتك
وتحدث معي بشأن توثيق ديوانك بدار الكتب قبل أن يسرق
وعرض علي سعر جيد إذا ماأردنا
طبع الديوان من جديد
متكفلا بالتوثيق
وقال بأن ديوانك سيشارك بمعرض الكتاب هذا العام
وقد طلب مني الرجل أن أستعد لمرافقته يوم الأثنين القادم أي بعد أسبوع حتى نقوم بإجراءات التوثيق لكي نحصل على وثيقة ايداع بعد موافقتك
قلت أفعلي ماتجدينه مناسبا حبيبتي
وسأقوم بتحويل مبلغ من المال
قالت لا تفعل شيئ عامر
فكل عملنا الآن لن يحتاج لمال
أخبرني ماذا بشأن عملك
قلت لقد نسيت ان أخبرك
بأنني عائد إلى عملي غدا
قالت بدهشة رائع حبيبي
والله لقد أفرحتني
تحدثنا طويلا وقد علت شفتيها ابتسامة الفرح
وحلقت كلماتنا بسماء السعادة على أجنحة الأمل الذي لم يزل على قيد الحياة
استطاع أبي الفوارس أن يكون السبب المباشر بإنهاء تلك المحادثة بإحضاره طعام الغداء
لكن ذلك الموعد المقدس في مساء كل ليلة لا زال ولم يزل هو الخيط الذي نستمد منه روح الأمل
ونستنشق من خلاله عبير الشوق
لينفث كلا منا ماتنم به أحاسيسه
من كوامن تلك المشاعر الصادقة المتجردة من سفاسف تلك الأمور التافهة
هاهي هيام تلهب هاتفي باتصالها
كي تشهد تلك الشرفةالحزينة لقاءا جديدا من لقائاتنا الحميمية الطاهرة بعد أن نشر السكون ردائه
وهجعت تلك الأنفس المعذبة المتعرية عن كل زيف مصطنع
وظهرت هيام من جديد بعينيها النجلاوين وبمقلتين صافيتين
يرتسم الخجل على وجنتيها
بكل حشمة وأدب قائلة
أشتقت إليك ياعشق الروح
قلت حبيبتي
ثم تملكني صمت وأنا أهيم بعينيها شوقا
مرت لحظات ولم ننبس ببنت شفة
لكنني مزقت ذاك الصمت
وتكلمت بلغة النهم الجائع المتعطش عن كل مايخالج داخلي من أحاسيس لم تمس شغاف قلبي من قبل
كسرنا حاجز الخوف والخجل
وتعانقنا شوقا بأرق العبارات التي لم تتجاوز نطاق العفة والأدب
ثم قالت بعد أن قمنا بتحويل المكالمة لمكالمة صوت فقط
عامر لن أطيل عليك اليوم حبيبي لأجل عملك غدا
قلت لابأس حبيبتي
لكن السؤال الذي لازال يحيرني
والذي تعقبه ألف إشارة استفهام
كيف يستطيع المرء مشورا بدأه بزرع بذور الحقد والكراهية
مع إنه كان قادرا على أن ينهي تلك المهزلة من البداية
قالت نعم عامر
وهي تعلم أني أشير إلى سحب الماضي الكئيبة
سأجيبك حبيبي
أنت تعلم أولا بأنني لست من أصحاب الأحلام الوردية
فأنا من اللواتي يرضين بالقليل
فعلاقتي بشخص واحد
قد فرضه القدر علي
والذي من خلاله أستطيع أن أكمل دراستي
خيرا من العودة إلى حياة فيها أمرأة كزوجة أبي الحاقدة والتي لم ألقى فيها إلا الإهانة والذل
ومن جهة ثانية
فأنا لم أعد أملك روح المقاومة بين أناس لا يروني إلا على الهامش
فرضيت بماكتبه الله لي
وعشت حياتي زوجة لسيد في بيت واحد لم تجمعنا أي أفكار مشتركة
فأول ماعرضت عليه
هي فكرة متابعة تعليمي
لكنه رفض رفضا قاطعا
زاعما أن المرأة لم تخلق إلا لزوجها وأولادها
كان كثير السفر لبلاد عربية مختلفة بحكم عمله بشركة والده هو وأخوته
فكانت إجازاته القليلة والقصيرة
هي السبب الرئيسي لمتابعة حياتي معه
كي أستطيع متابعة تعليمي سرا بعد رفضه
وبمساعدة تلك المراة القبطية أم ملاك
التي قامت بتأمين كل كتب المنهاج لي
والتي كانت تحثني على الدراسة والتعليم في البيت أثناء سفره
وأقوم بإخفاء الكتب أثناء حضوره من السفر
ودارت الأيام بنا رحاها برغم تناقضاته الكثيرة وتفكيره الغير سوي
حتى أنه كان يحاول إجباري على أن أقوم بتقديم الشاي والقهوة لرفاقه الشباب الذين كانوا يحضرون عند مجيئه
من السفر
فكنت أرفض رفضا قاطعا
فيتحول إلى وحش كاسر يقوم بضربي وشتمي واتهامي بأنني كسرت كلمته امام رفاقه الذي يعيرونه بأنه ليس برجل
فقلت ولم ترفضين هيام
إذا كان زوجك موجود
قالت كنت أرفض لأنني لم أجد إلا الغدر والخيانة من نظرات أصدقائه
هذا لو كانوا أصدقاء
فقد لاحظت أثناء زيارتهم للمرة الأولى نظراتهم الخائنة والغير طبيعية
حتى انه راح أحدهم يثني علي وعلى جمالي بطريقة غير لائقة أثناء تقديمي القهوة لهم
أمام زوجي الذي لم يحرك ساكنا وكأن الغيرة لم تجد طريقها الى رأسه
فمنذ ذلك الموقف راح يتملكني خوف شديد من كل رفاقه الذين كانوا يحضرون عنده ويسهرون لوقت متأخر من الليل
فبعد ان أحضر لهم القهوة أقوم بإغلاق الباب على نفسي حتى يذهبوا
ومرت الأيام وانا أحاول التقرب من سيد بالنصيحة وبالكلمة الطيبة حتى يصلي فقط لكنني عبثا أحاول
رغم تنازلاتي الكثيرة
لكن ردوده دائما لم تتجاوز حدود السخرية اللاذعة والتكبر
بحثت عمن يحاول تفهمي أو مساعدتي من أهله وأخوته
لكنهم لم يكونوا بأحسن حال منه
مرت الأيام حتى رزقني الله منه بولدي البكر الذي أسماه ماجد على أسم أبيه
بتلك الفترة أحسست بتغيير ملحوظ بحياة سيد نحو الأفضل
وكأن مولودنا الأول كان سببا بتغييره والتفاته لبيته وأسرته
أسعدني ذلك كثيرا وكنت أتجنب كل مايغضبه حتى لو كان على خطأ
سافر يومها وكنت حاملا بأحمد وماجد لم يتجاوز الخمسة أشهر من عمره
لذلك الوقت وأنا أتابع تعليمي سرا قمت بتقديم الإمتحان إثناء سفره ولم أعلم بأن أهله قد اكتشفوا أمري
عاد من سفره بعد فترة قصيرة
تناول معي طعام العشاء كان طبيعيا جدا فقد أخذ ابنه بين ذراعيه يشمه ويقبله ثم أعطاني إياه وخرج من البيت قاصدا بيت أهله قائلا لن أتأخر
بقيت بمفردي بالبيت فقد أعتدت على ذلك
فأنا لم أعد وحيدة
بعد ان رزقني الله طفلا كفلقة القمر
انتظرت سيد لوقت متأخر لكنه لم يعد
كانت ليلة باردة من ليالي الشتاء القارسة
ضممت طفلي إلى صدري وغلبني النعاس فنمت وسيد لم يعد بعد
قلت وماذا بعد
وكل تفاصيل قصتها تجتاح مخيلتي بكل دقتها
قالت لم أستيقظ إلا على صراخ سيد الذي انقلب إلى وحش كاسر
يضرب ويحطم بأثاث البيت
وهو يسبني ويشتمني بألفاظ بذيئة
صارخا أين الكتب
استيقظت مرعوبة مدهوشة
ضممت ماجد لصدري وأنزويت خائفة مرتجفة
وسيد يبعثر الملابس من الخزانة
ثائرا هائجا
حتى عثر على الكتب
فبدأ يمزقها ويركلها بقدميه
ثم أقبل علي كالمتوحش
وكأن عيناه عينا شيطان
قبض على شعري وسحبني من السرير بكل وحشية وألقاني أرضا
ولا ازال متشبثة بماجد بكلتا ذراعاي ببنما انهال علي ضربا وركلا بقدميه بلا شفقة ولا رحمة
ثم فتح باب البيت وألقاني خارجا صارخا أغربي عن وجهي وأغلق الباب بقوة
أنتصبت ورحت أطرق الباب وسط بكائي وبكاء طفلي على مرأى من الجيران الذين خرجوا على أصواتنا لكنهم لم يحركوا ساكنا وقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل
وسيد لم يفتح الباب
ألقت علي جارتي رداءا كي أستر نفسي من عيون هؤلاء الذين خلت قلوبهم من الرحمة
ولم يجرؤ احدهم على إيوائي أنا وطفلي
فلم يكن أمامي إلا العودة إلى بيت أبي باكية ذليلة وسط صراخ طفلي الذي يشق سكون الليل ويمزق صقيع تلك الليلة البائسة
سلكت الطريق الذي خلا من كل شيئ تلفحني نسمات الصقيع
متوجهة لبيت أبي الذي يبعد أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام
تقص علي هيام مجريات تلك الأحداث وسط نحيبها وبكائكها
فلم أستطع إمساك دموعي التي بللت لحيتي منصتا لها بكل خشوع ووجع دون أن أقاطها
قالت متابعة
وصلت بيت أبي وطرقت الباب
وأنا أرتجف خوفا وبردا وسط بكاء طفلي الذي ملئ المكان
فتحت لي الباب زوجة أبي وكأنها كانت تشهد ليلة رومانسية
حدقت مدهوشة يسكن نظراتها حقد دفين
قائلة هذا أنتي ماذا تريدين
لكنني دخلت بلا استئذان غير مكترثة لها
متوجهة إلى أبي الذي كان يجلس على أريكة قبالة الممر
ينعم بدفئ ذلك الموقد الذي يجلس أمامه
والذي أستقبلني بكلامه الجاف
قائلا مالذي جاء بك في هذا الوقت المتأخر
ولم يعطني فرصة للتحدث بماجرى
بل أردف قائلا ليس لك مكان بيننا
وصرخ قائلا هيا عودي لبيت زوجك
تملكني صمت رهيب وسط خيبة الأمل
فانفجرت باكية
وقلت انظر إلي جيدا
بحياتي كلها لم أحس بعطفك وحنانك
لكنني سأذهب الآن ولن أعتبر بعد اليوم بأن لي أبا
وسأعود إلى سيد كالكلبة وسأعيش تحت أقدامه ذلا
فهو لا يلام على مايفعل إذا كنت أنت هكذا
وخرجت هائمة على وجهي باكية وقد أسودت الدنيا أمامي ماذا لولم يفتح الباب لي سيد
سأذهب إلى بيت أهله أولا وأخبرهم بماحصل لعلهم يرأفوا بحالي وبحال طفلي فأقضي الليلة عندهم أو يعيدوني لبيتي
وقادتني قدماي لبيتهم
طرقت الباب فانبرت أمه بالباب ترمقني بكل وقاحة قائلة ماذا تريدين
قلت لقد ضربني سيد وطردني من البيت
فوضعت كلتا يديها على الباب مانعة دخولي
مجيبة إياي بكل قسوة وفضاضة
هي اذهبي لبيت أبيك
وأغلقت الباب بوجهي
وقفت لحظات وأنا أتمنى الموت ولا أراه وسط بكاء طفلي الذي لم ينقطع
ولم يبقى أمامي سوى العودة إلى سيد لأرتمي تحت أقدامه ذلا وانكسارا لأجل هذا الطفل الصغير
وعدت مكسورة ذليلة بعد أن أغلقت كل الأبواب بوجهي
سرت محطمة الخطوات تتقاذفني مئات الأفكار
وتصفعني عواصف الذل من كل جانب
متوجهة لبيت سيد أسير بطريق خالية من الإنس والجن بمنتصف الليل وأنا لم أتم السادسة عشر من عمري
وإذا بسيارة تتقدم مني مسرعة وقد بهرت عيناي بأنوارها الساطعة
لكن السيارة بعد أن تفادتني
توقفت بعد خمسين مترا
فاستدرت خلفي أنظر ماذا يجري
فتح الباب ونزل منها شابا
وهو يترنح يمينا وشمالا مناديا إياي هاا.... ماذا يفعل القمر لوحده على ناصية الطريق بعد منتصف الليل
أحسست عندها بخطورة الموقف وأصابني هلع شديد
فماكان مني إلا أن ركضت مسرعة هاربة
بينما ذاك الشاب راح يجري خلفي
وصاحبه الذي معه يقف خلف السيارة يقول له بصوت عال
لا تدعها تفلت من يدك
فأدركت أنه سيلحق بي
فأنا حامل وطفلي الصغير بحضني
فقمت بألقاء طفلي على الأرض الذي شق بكائه سكون الليل
وألتجأت إلى مبنى حديث البنيان بلا أبواب ولا نوافذ
فأختبات به وألتجأت بزاوية مظلمة
وأنا أرقب تحركات ذلك الشاب الذي راح يقترب من المدخل وصوت بكاء ماجد يمزق قلبي
وأنا أتضرع وأدعو الله ان يصرف عني وعن طفلي كل سوء
وقف على باب المدخل لحظات
لكنه سرعان مافر عائدا لصاحبه لكنه حمل طفلي بين يديه وولا مدبرا لصاحبه
بينما ألتزمت الصمت ورحت أرقبهم من أحدى نوافذ المبنى مرتجفة مرعوبة
سمعت صاحبه يقول له لماذا لم تحضرها معك
قال المكان مظلم جدا
سنأخذ الطفل فهي حتما ستلحق بنا
لكن الآخر أنتزع طفلي من بين يديه وألقاه على الأرض بلا شفقة ولا رحمة
وصرخ به قائلا
هي اصعد أيها الجبان قبل أن يرانا أحد
ثم ركبوا السيارة وغادروا المكان على الفور
فخرجت مسرعة كالمجنونة إلى طفلي
حملته بكلتا يدي وأنا أجري وأحاول اسكاته
ولم أجد نفسي إلا على باب سيد
طرقت الباب فلم يفتح
ثم طرقته ثانية
لكنه خرج وكأنه شيطان
انهال علي من جديد ضربا وركلا بقدميه
قائلا مازلتي هنا
حتى أنه أصاب ماجد بإحدى ركلاته فأوقعني فوقه
ثم دخل وصفع الباب صفعة قوية
استدرت خلفي فاغلق الجيران أبوابهم بعد أن أغلقت كل الأبواب بوجهي
لكن باب الله لم يغلق
فحملت طفلي الذي سكت أخيرا
وصعدت به إلى السطح
ضممته إلى صدري واستلقيت بجانب خزان الماء
وانا أرتجف رعبا وبردا
وبعد مضي أكثر من ساعة لفت انتباهي سكوت ماجد عن البكاء وانعدام حركته
فانتفضت مذهولة مرعوبة أنادي ماجد ماجد
أهزه بكلتا يدي فلا يتحرك
وقد أزرقت شفتاه
فرحت أصرخ بأعلى صوتي ماجد ماجد
شق صوتي صمت الجبناء
ومزق ذاك السكون
الحزين
نزلت السلم كالمجنونة
وأنا أطرق أبواب الجيران وباب سيد وانا أبكي وأصرخ لقد مات ماجد لقد مات ماجد
حقا لقد مات ماجد بعد أن ماتت الرحمة بتلك النفوس المحنطة
انهالت هيام باكية منهاره
بعد أن أبكت كل جارحة في كياني...... يتبع
بيروت ٢٠١٨/٩/١٤
بقلم عبدالله محمد الحسن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق